قصة قصيرة, والوقائع كلها حدثت بالفعل, والكاتب
ليس أحد شخصيات الأحداث.
*** الساعة 6 فجر يوم 9 أبريل 2011 - شارع قصر
النيل - القاهرة
كان الشاب يلهث وهو يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة من العدو
في شوارع وسط البلد بالعاصمة بعد مطاردات من الشرطة العسكرية, حيث ما زال صوت رصاصاتهم يدوي في جنبات الوسط المحيط الساكن لتفريق المعتصمين, كان الشاب -الذي
مازال في منتصف العشرينيات من العمر- ورغم إرهاقه الشديد, متشبعاً بالحماسة والقوة بفعل
ذلك التغير الهائل في حياته خلال الشهور القليلة الماضية. ثورة 25 يناير, كم زلزلت
كيانه وغيرت شخصيته واهتماماته بصورة جذرية وغرست مباديء الحرية والكرامة والعدالة
ودعم حقوق الآخرين داخل أعماقه.
كان قد تم تنظيم اعتصام داخل ميدان التحرير بعد مليونية المحاكمة
والتطهير –تلك الفترة الزمنية التي انكشف فيها تواطؤ المجلس العسكري مع النظام
المخلوع- فكان المطلب محاكمة النظام البائد وتطهير المؤسسات بعدما
انضم إليهم ظباط من الجيش تضامناَ مع ثورة الشعب ضد الفساد, ولكن تم فض الاعتصام
بواسطة الشرطة العسكرية, وطاردوا المعتصمين المسالمين بضراوة من قلب التحرير حتي
الشوارع المجاورة للميدان, وهو يطلقون خلفهم الرصاص الحي وطلقات الصوت في الهواء. كان
الشاب يدرك أنهم يحاولون ترهيبهم حتي يعودوا من حيث أتوا ولا ينزلون مرة أخري إلي
الميدان للمطالبة بأية حقوق.
بعد مطاردات استمرت عدة ساعات, وصل الشاب مع
مجموعة قليلة متبقية من الثوار إلي شارع قصر النيل ناحية معهد جوتة, بعدما تمكنت
قوات الجيش من السيطرة علي التحرير بالكامل. لم يعلم الشاب بعد ما مصير
الظباط المنشقين أو بقية المعتصمين. فجأة وجد الثوار أنفسهم أمام تشكيل من الأمن
المركزي لاول مرة منذ "علقة" يوم 28 يناير. هتف الجميع بكل قوة وهم يندفعون نحوهم
"الداخلية رجعت تاني.. الداخلية بلطجية..", فإذ بالأمن
يطلق قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة وسط الشارع. اختبأ الشاب في محطة وقود بجوار
المعهد حتي يزول أثر الغاز, وفوجيء بعدد من العساكر يقطع مسافة من الشارع ويندفع
نحوه, فتم القبض عليه. ميز الشاب بسهولة ملامح عدد منهم, كان بعضهم من عساكر الجيش
الذين يراهم بصورة مستمرة وجهاً لوجه فوق دباباتهم محيطين بالميدان منذ الأيام
الأولي للثورة, واستنتج الشاب أن الجيش ارتدي زي الامن المركزي ربما محاولين إعادة
سطوته للشارع بعد انكساره وانسحابه.
تم اقتياد الشاب ناحية عبد المنعم رياض وخلال تلك
الأثناء تكاثر عليه العساكر لكماً وركلاً وسحلاً بالأيدي والأقدام والعصيان
والبيادات, حتي أتي عسكري ملثم -يبدو من القوات الخاصة- قام بتوجيه لكمة مباشرة فوق
عيني الشاب ليفقد إتزانه تماماً ويسقط أرضاً, ثم استكمل المتواجدين "حفلة
الضرب" عليه. بعدها وصل الشاب إلي سيارة الترحيلات التابعة للجيش, ووجد هناك
20 شاباً آخر داخلها قُبض عليهم جميعاً عبر الشرطة العسكرية وتم تعذيبهم بقسوة, وعلم
أيضاً أن هناك سيارة ترحيلات أخري بها عدد مماثل تقريباً من المقبوض عليهم. كانوا
لا يعلمون مصيرهم وأين يتجهون ولماذا وكيف ستتم محاكمتهم بعد قيامهم بثورة الحرية
والكرامة.
*** منتصف نهار 12 أبريل 2011 – أحد الزنازين فردة 2 بالسجن
الحربي
كان عددهم ما يقارب 300 شخصاً محتجزين في "فردة"
2 -مكان مكون من مجموعة زنازين كما يطلق عليها داخل السجن الحربي– حيث يشاهد الشاب يومياً الأوجه تتجدد, فيتم
ترحيل أعداد وقدوم أعداد جديدة تم القبض عليهم أغلبهم بتهمة خرق حظر التجوال. كان قد
تم تقسيهم عبر 16 زنزانة بكل واحدة ما يتجاوز الـ 20 شاباً ملتصقين بعضهم بعضاً بسبب
ضيق المكان. كانت تلك فترة التريض بالحوش –مكان واسع مفتوح بين زنازين "الفردة"
يتجولون ويتجمعون فيه- بعد ترحيل بعض المحتجزين لجلساتهم صباحاً والتقاط من قد
صدرت ضدهم أحكام عسكرية. كان الكل مرهقاً كالعادة بعد
أرق طوال الليل وتكدير متواصل بالأوامر العسكرية والتعداد المتكرر وضربهم
كـ"وسيلة تسلية" للعساكر, وأحياناً قطع مياة الشرب لمدد تصل ليوم كامل.
فجأة شق الصمت صراخ داخل زنزانة
مجاورة للشاب, هرع الجميع ليجدوا أن النيران تلتهم بطانية أحد المحتجزين القصر داخل الزنزانة, كان
يبدو أن ذلك القاصر -الذي لم يتعدي عمره بعد الـ 16 سنة- قد أشعلها دون قصد
بواسطة ولاعة حيث كان مسموحاً بها داخل السجن الحربي. كان الشاب قد ميز ذلك القاصر ضئيل
الحجم منذ قدومه إلي الحجز قبل يومين مع مجموعة مكونة من 21 معتقلاً آخر تم التقاطهم
عشوائياً عصر ثاني يوم فض اعتصام 8 أبريل عبر الشرطة العسكرية من محيط طلعت حرب
وعبد المنعم رياض, حيث تم تحويلهم للمحاكمة العسكرية العاجلة بعدة تهم لا يستوعبونها من
بينها تعدي علي موظفين عموميين "الشرطة العسكرية" ومقاومة سلطات وتجمهر,
وأغلب من تعرف عليهم الشاب لم يشتركوا في الواقعة وليس لهم علاقة بالتظاهرات من الأساس.
كان ذلك القاصر يبدو للشاب أنه من "أولاد الشارع" فلم يأتِه أي زوار أو
أكل ووجبات خلال اليومين الماضيين, وكان أضحوكة السجن من الجميع بسبب نقص خبرته
وبطء فهمه. وكلما يتم توجيه الأوامر العسكرية مثل "اجْمَع" أي "التجمع بسرعة في صفوف
عسكرية" أو "حِدّ" أي "بدء التعداد تصاعدياً", غالباَ
ما يرتبك ويتلعثم, فينال نصيبه من الضرب ويُعاد التعداد من البداية.
بعد إخماد نيران بطانية ذلك القاصر, جاء صف الظابط ومعه
عساكره مكشرين عن أنيابهم. علم الشاب مصيره الحتمي وفقاً للقاعدة داخل
السجون "السيئة بتعم والحسنة بتخص". كان المصير للجميع هو التعذيب لا
محالة, بينما يتم تخصيص الجانب الأكبر من العقوبة لتعس الحظ الذي ارتكب الخطيئة.
قام العساكر بعمل صفين متوازين, وأجبروا المحتجزين علي المرور بينهم ذهاباً وإياباً,
لينال كل منهم ما يناله من اللكمات والصفعات والركلات. كان هناك معاق ذهنياً في
أوائل العشرينات -قدم بالأمس- يبكي بشدة أثناء الضرب مما أثار حفيظة الشاب.
جاء دور القاصر, قام صف ظابط من الجيش ومجموعة عساكر بضربه
بالعصيان والصواعق الكهربية, ثم قيدوه علي سرير حديد به "سوست" –بعد
إزالة المرتبة- وربطوا أطرافه الأربعة في أركان السرير مع إبقاء عضلاته مشدودة, وتركوه
علي هذا الوضع قرابة خمس ساعات باكياً صارخاً من الالم والشاب يري هذا المشهد
المؤلم دون أن يتمكن من التفوه بحرف. وبعد ذلك, جرد صف الظابط جميع المحتجزين من
ملابسهم دون الملابس الداخلية, ونهب أكلهم وشربهم وأمر بحرمانهم من لبسهم وأحذيتهم
وأغطيتهم لمدة أسبوع.
*** صباح 20 أبريل 2011 – حجز النيابة العسكرية س 28 بمدينة
نصر
كان ذلك الصباح البارد الملل علي قلب الشاب داخل حجز
النيابة العسكرية تحت الأرض, بعد جلسات لا تنتهي داخل المحكمة العسكرية يتم
تأجيلها كل مرة أمام قضاة ووكلاء نيابة من ظباط الجيش, يرتدون جميعاً الزي الكاكي,
فكان يشعر وكأنه فريسة داخل معسكر للقوات المسلحة وليست تلك محاكمة عادلة وسط أناس
وأجواء وإجراءات طبيعية. كان بجوار الشاب داخل الحجز ذلك الصبي المعاق ذهنياً, حيث
قد وطد علاقته به, واتخذه صديقاً له داخل السجن الموحش.
كانت قد انتهت جلسة الصبي بالأمس بانتظار صدور الحكم بعد يوم طويل, أما الشاب فقد
تأجلت جلسته للمرة الخامسة علي التوالي.
استعاد ذهن الشاب سريعاً قصة رفيقه المتأخر ذهنياً وكيف جاءوا
به إلي قلب هذا الجحيم. بدأت قصة الصبي -الذي ينتمي لأسرة ميسورة الحال تعمل في
مجال تجارة السيارات- منذ أسابيع قليلة أثناء توجهه إلي "سوبر ماركت" بالشيخ زايد لشراء عصير. توهم البائع أنه يقوم بالسرقة, فسلط
عليه أصدقاءه وانهالوا علي الصبي ضرباً حتي نزف من وجهه, ثم جاء صاحب "السوبر ماركت"
وخشي من المسائلة, فاستدعي الشرطة العسكرية واستعان بسكينة من داخل المحل ليقنع
ظابط الجيش أنه حاول التعدي عليه بها بعد سرقته. قام الظابط باعتقال الصبي رغم عدم
معقولية الواقعة, ولفق له تهم سرقة عصير "إنجوي" وكيس "شيبسي"
وخرق حظر تجوال وحيازة سلاح أبيض وحوله للمحاكمة العسكرية. لم يدرك عقل الصبي المتأخر تلك التهم أو لماذا يقبع في السجن الحربي أو النيابة العسكرية, كان كل ما
يريده هو العودة إلي دفء منزله. خلال مرافعة جلسة الأمس تذكر الشاب كيف ترافع
محامي الصبي بأسلوب قانوني منطقي وقدم شهادة تثبت علاجه النفسي في عدة مستشفيات,
ثم نفي الشاهد الوحيد صاحب المحل سابق رؤيته بعد أن هان عليه أمر الصبي, لينتظر الجميع لليوم التالي حكم القاضي العسكري بالبراءة التي لا خلاف عليها.
عاد عقل الشاب إلي أرض الواقع داخل حجز النيابة العسكرية,
عندما قدم إليهما صول وأخبر الصبي المعاق أنه نال البراءة وله أمانات في السجن
الحربي سيتوجه لالتقاطها قبل خروجه. كاد الشاب والصبي أن يطيرا من السعادة,
فأخيراً ستتحقق أمنية الصبي بالعودة إلي أحضان بيته وسط معارفه. بعد انصراف الصبي,
سأل الشاب صولاً آخر عن رفيقه ليفاجئه بالخبر الصاعق أنه قد تم الحكم عليه
بالحبس 3 سنوات وليس بالبراءة. انهار الشاب داخل زنزانته وتخيل حجم الصدمة علي الصبي بعد بلوغه من
الفرحة منتهاها, ذلك الصبي ذو القلب البرىء الذي كان مستضعفاً
داخل السجن الحربي والكل يستهين به ويتعمد إيذائه, ذلك الصبي سيعاني لسنوات قادمة دون أن يدرك مصيره الجديد في
المكان النائي المجهول المتجه إليه وحيداً.
*** قبيل الظهر يوم 27 أبريل 2011 – حوش فردة 2 بالسجن
الحربي
قبيل الظهر دلف صف ضابط من الجيش إلي حوش "فردة" 2,
ومعه كشف مطبوع به أسماء المحتجزين الذين تم الحكم عليه, علم الشاب ما هم
مقبلين عليه, فقدوم صف الظابط معناه التقاط مزيد من سيىء الحظ بالسجن الحربي بعد صدور أحكام عسكرية ضدهم وإلقائهم في السجون المتناثرة تاركاً وراءه من لم يتم
الحكم عليه بعد. أما مجيئه صباحاً معناه اقتياد بعض المحتجزين إلي جلساتهم. كان قد تحول وجه ذلك صف الظابط بالنسبة للشاب لما يشبه الجاثوم يراه أحيانا في كوابسيه,
فكانت مناداة اسمه تعني انتقاله إلي رحلة عذاب طويلة لسجن بعيد لا يعرف متي تنتهي.
كان الشاب قد تعود علي تلك الطقوس داخل السجن الحربي، في
البداية يصيح صف الضابط بصوته الجهوري "اجمع بسرعة .. اجمع بسرعة", ثم يقوم بعدَّهم ويعيد العدَّ إذا أخطأ أحدهم, ثم يبدأ في مناداة الأسماء بالكشف
الذي بحوزته. وعلي ذوي الحظ العاثر التوجه إلي أحد أركان الحوش دون أن يحق لهم
معرفة جهتهم أو حكم حبسهم, ثم يدخل أناس بزي "ملكي" –معروف انتمائهم لوزارة الداخلية- كانوا يقومون بـ"كلبشة" ذوي الحظ العاثر, ويقتادونهم
إلي مكانٍ مجهولٍ حيث مصيرهم المجهول. وأحياناً يتم إخبارهم بأنهم نالوا البراءة, ليفاجىء الشاب بعدها بأنهم قد حُكم عليهم بالحبس. كانت أعداد
البشر الذين يحاكمون عسكرياً مهولة بالفعل أمام أعين الشاب داخل السجن الحربي,
يومياً يتم جلب عشرات من المواطنين للسجن قد يصل عددهم
أحياناً إلي مئة أو مئتين تم القبض عليهم عن طريق الجيش, مقابل عشرات آخرين
محتجزين يتم ترحيلهم بعد الحكم عليهم خلال يوم أو يومين. كان الشاب يري أمامه
مختلف فئات أهل بلده تأتي وتغادر بأحكام عسكرية دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بالاستعانة
بمحامين أو تقديم الدفوع أو الأدلة أو الشهود. تعجب الشاب كيف تتم محاكمتهم أمام جهة تابعة لمن
يختصمهم!
تلك المرة نادي صف الظابط كهلاً عجوزاً يتعدي عمره 70 عاماً, فنهض وتحرك بصعوبة حيث كان ظهره قد انحني وارتخت عضلاته من أثر
الكهولة. كل ما يعرفه الشاب عن ذلك الكهل أنه مقيم بالزاوية الحمراء وقامت
قوات من الشرطة العسكرية بمداهمة منزله لاعتقال ابنه دون أسباب, لم يجدوه فأخذوه
هو بدلاً منه, وتمت إحالته للمحاكمة العسكرية بتهم غريبة من بينها إدارة ورشة
لتصنيع سلاح ناري!! اتجه الكهل بصعوبة إلي ركن الحوش بعد سماع اسمه, قائلاً بحرقة "ليه
بتعملوا فينا كده.. حسبي الله ونعم الوكيل يا ظلمة.. أنا في مقام أبوكو برضه.. إحنا
مصريين زي بعض لو جيش احتلال مش هيعمل كده". بعد اقتياد المحكوم عليهم
للخارج, سأل الشاب صف ظابط داخل الحوش عن ذلك الكهل, فأخبره أنه حُكم عليه بالحبس 7
سنوات. استغرب الشاب كيف حكم القاضي العسكري علي ذلك الكهل بالحبس وهو علي مشارف الموت؟!
كيف رأي القاضي العسكري أن ذلك الكهل يدير ورشة سلاح وهو يتحرك بمعاناة وكل ما
يملكه "شنطة" كبيرة مليئةً بالأدوية؟!.
لم يكن الشاب يتوقف كثيراً أمام إجراءات وأحكام القضاء
العسكري, فالقاصر ذو الـ 16 ربيعاً ورفاقه الـ21 من معتقلي التحرير 9 أبريل قد تم
الإفراج عنهم فجأة منذ يومين مع ممن تم العفو عنهم بمناسبة أعياد تحرير سيناء بدون أن
تنتهى جلساتهم أو تصدر ضدهم أحكاماً, بل ولم يستوعب الشاب حتي الآن ما هي قضيتهم أو
أحكامهم وكيف كانت إجراءات محاكمتهم أو الإفراج عنهم. هكذا هو الحال داخل السجن الحربي,
تظل مقيماً به وتحضر جلسات حتي يحين دورك في الاقتياد للخارج إما لسجن مجهول أو تنال الحرية.
*** مساء يوم 10 مايو 2011 – أحد الزنازين فردة 2 بالسجن
الحربي
كان الشاب راقداً مساء ذلك اليوم في زنزانته الضيقة محصوراً
بين رفاقه منتظراً ليلاً جديداً من التكدير والتعذيب باستغلال أي هفوة. رأي الشاب
في الزنزانة المقابلة بعض المحتجزين من أمناء الشرطة المفصولين يقومون بعمل ما
يسميه المساجين "خابور" وهو إعداد شاي بطريقة بسيطة (نصف زجاجة بلاستيك
بها ماء وتُلف قاعدتها بقماش يتم اشغالها فيغلي الماء). علم الشاب أن ذلك
سيستغله السجَانين ليقوموا بحفلة جديدة من التعذيب. كان الشاب قد تعرف منذ أيام
قليلة علي هولاء المفصولين من أمناء الشرطة وأخبروه أنه تم اعتقالهم أثناء تنظيمهم
تظاهرة أمام وزارة الداخلية للمطالبة بعودتهم للعمل بعد فصلهم تعسفياً أيام حكم
المخلوع. والعجيب أن من قام باعتقالهم هم زملائهم بالوزارة ثم سلموهم للجيش, وتمت
محاكمتهم عسكرياً بتهم تجمهر وتعطيل المرور ومقاومة السلطات.
مع وصول الخبر, اقتحم "الفردة" العقيد قائد
السجن الحربي ومعه مسدس –غير قانوني حيازته داخل العنابر- ليضرب عدة طلقات صوت
بالأعلي وصرخ فيهم "اجمع اجمع.. اللي هيفتح بوقه هديله بالرصاص". وقف الجميع
في صفوف متوازية بطريقة عسكرية, نظر الشاب بجانبه ليجد زميله في الصف بائع
الكشري بزيه المميز الذي قدم مؤخراً ويبدو واضحاً كالشمس أنه تم اعتقاله بالخطأ.
كان ذلك البائع قد قدم للسجن منذ يومين مرتدياً زي "اليونيفيرم" الخاص بمحل
كشري شهير بأحد شوارع إمبابة بالقرب من كنيسة هناك, حيث حدثت اشتباكات طائفية
كبيرة بالمنطقة, وقامت قوات الجيش بالهجوم علي الحي وتم أخذه من داخل محل عمله دون
مشاركته في الأحداث من الأساس. كان بائع الكشري شاباً يافعاً يبحث عن قوت يومه
داخل محل للكشري, ووجد نفسه بين عيشة وضحاها متهماً بإثارة الفتن الطائفية وتكدير
السلم العام في قضية عسكرية داخل سجن تابع للجيش ويتعرض يومياً للتعذيب.
أمر العقيد بتجريد المحتجزين من ملابسهم تماماً, وصاح
"9 استعد" فقام الشاب مع الجميع بالأرفصة علي أطراف أصابع اقدامهم مع
تنكيس رأسهم لأسفل ووضع يديهم فوق الرأس, ثم دخل عساكر من الصاعقة والمظلات بزيهم
الميري مع دروعهم وخوذتهم وعصيانهم. ثم أمر العقيد أن يبدأ المساجين في العد أثناء
مرور العساكر بين صفوفهم, حيث أنه من يخطأ في التعداد -أو في تنفيذ الاوامر
العسكرية الغير مفهومة للمساجين مثل "ارْقِد" و "شكِّل قطار"- يتم
معاقبته فوراً بالضرب من الخلف في أماكن عشوائية بواسطة أسطوانات الإطفاء الحديدية
والعصيان الخشب والصواعق الكهربية, وكان الألم الأكبر عند الشاب في عدم معرفة توقيت
ومكان الضربة القادمة أثناء تنكيس الرأس.
بعد ذلك, جاء دور العقاب الشنيع لأمناء الشرطة المفصولين الذين
قاموا بارتكاب جريمة إعداد الشاي, فتم إحضار "فلكة" حديدية وحشر ساق أحدهم فيها,
وانهال العساكر عليها بالعصيان دون هوادة. كانت الضربات تنهال تقريباً علي ساقه
بالكامل مشط القدم وبطنها والقصبة والفخذ, تمزق قلب الشاب أمام هذا المشهد وسط
الصراخ والعويل والتوسلات.
*** صباح يوم 18 مايو 2011 - سيارة ترحيلات في مكان مجهول
كان الشاب في قمة التوتر وقد جاءه قدره المحتوم, متمثلاً
في صف الظابط وهو ينادي اسمه ليتجه إلي الترحيلات. كان الشاب الثوري مُتَّهماً بتهم غير معقولة من تجمهر في طريق عام وتعدي علي
موظفين عموميين (الشرطة العسكرية) وحيازة مفرقعات وقنابل ومتفجرات وخرق حظر التجوال.
كان الشاب يدرك أن تلك التهم وحدها كفيلة بأن يقضي بقية عمره خلف قضبان سجون العسكر,
وما العجب في ذلك وقد رأي بأم عينيه أناساً كثيرة بلا أدني ذنب ينالون أحكاماً عسكرية طويلة.
لم يجد الشاب من يخبره بالمعلومة الصحيحة لحكم حبسه, فجل من يعرفهم من صف
الضباط كانوا يخبرونه بأحكام الآخرين فقط, لكنهم لا يتفوهون أبداً بالأحكام أمام
المحكوم عليهم أنفسهم. لم يعلم الشاب أين يتجه بالأساس ومتي ستلامس قدماه "الأسفلت"
مرة أخري ليستكمل ثورته الناقصة. أراح الشاب ظهره إلي جدار سيارة الترحيلات المكتظة
بالبشر من مختلف الطبقات, وهي تشق الطرقات نحو المجهول.
أحمد عاطف
كتب في 19 ديسمبر 2013
المحاكمات العسكريه
ردحذفنقطه ومن اول السطر 11 الف واحد اخدو احكام عسكريه ومحدش بيتكلم عنهم ودلوقتي عايزين يخلوها موجوده بالدستور والقانون