الثلاثاء، 5 يناير 2016

أنا لا أنتمي إلى عالمكم

.
أنا اتولدت في 25 يناير 2011، بس عمري أكبر من 5 سنين بكتير. عالَم ما قبل اليوم ده؛ الأهل، الجيران، الصحاب؛ ألعاب الطفولة، يوميات المدرسة، نزولات الشارع، اندفاعات المراهقة، دروس الثانوي، خروجات المنطقة، علاقات الحب، تنقلات الجامعة؛ حياتي كانت معتمدة كلياً على الكورة والأفلام والأغاني والبنات، بعدين أدركت أن العالم ده بكل أركانه وأبعاده يعتبر قمة الشفقة والبُؤس ليا، فعليا ومضات العالم ده بقت لا تُثير فيا الشجون ولا روح النوستالجيا والحسرة على زمن الماضي الجميل.
.
خلال مرحلة أول سنتين من ميلادي، كنت في فترة صراعات ذهنية عميقة وأمواج تعصف جذرياً بكياني وحالة تشتت رهيبة ما بين العالمين، "عالم يناير" مُنفتح على مصراعيه ذو آفاق لا نهاية لها يتمدد زمنياً ومكانياً رأسياً وأفقياً ويستوعب كل المباديء والأفكار والرؤى والأحلام، و"عالم الروتين الأسري المُنغلق" - اللي فيه ناس بتسميه "الزومبي"- حياة تقليدية مُحافظة جامدة مُنغلقة فكرياً ولا تتفاعل إلا مع عناصر اجتماعية معينة في محيط دائرتها فقط وليس لها علاقة بالعالم الخارجي اللي بيمثل كل من هو خارج الدائرة دي.
.
بعد المرحلة دي وقرار الانتماء الكامل لـ"عالم يناير"، لما بقابل حد من صحابي القدامى أو بقعد مع أهلي أو خلال خروجات والتزامات عائلية حقيقي مببقاش عارف اتفاعل معاهم، فيه تنافر تام في أسلوب التفكير والمنطق والرؤية والأهداف ونظام الحياة بين العالمين، حتى أصغر حاجة في عالمهم وهي النكت - بتاعتهم- مبقتش بتضحكني أصلاً.
.
من أبسط الأمور السلبية في بنيان "عالم الروتين الأسري المُنغلق" إن مفيش مساحة شخصية، البني آدمين فيها بيحتكوا ببعضهم البعض في كل تفصيلة وركن وبيتآكلوا ذاتياً، بمجرد إن فيه رابط أو عقد اجتماعي ما بينهم سواء قرابة أو نسب أو علاقة عاطفية أو صداقة أو زمالة عمل فده بيديهم الحق بالتدخل في كامل مساحتي الشخصية وبياخدوا قرارات أو فرمانات تخصني أنا. المساحة الشخصية لكل شخص دي ملكه هو فقط، ممكن تكون جزء منها مشترك مع أشخاص بعينها، وجزء آخر مع أشخاص تانية، وجزء ثالث له وحده.
.
أنا شخص واقعي وبقدر أتجاوز اللحظة الماضية وأتعامل مع معطيات الأمر الواقع - سواء كانت إجبارية أو اختيارية- أياً كان اختلافها وقسوتها وتعقيداتها، وأعيد سستمة نظام حياتي وأولوياتي وأفكاري وأهدافي الجديدة، بس أنا مش من النوع الناكر للجميل ولا من النوع المؤمن بتيمة "ماذا لو بمعطيات مختلفة فستؤدي حتماً إلى نتائج أفضل". زي ما أنا تجاوزت تماماً عالم ما قبل ميلادي، بس فعلاً ممتن ومقدر كل اللي كان فيه وكل اللي ساهموا حتى - فيما يبدو لي حالياً- بتشويه ذهني أو تدعيم بُؤس طفولتي وصباي ومراهقتي أو تهميش نظرتي للحياة أو تخفيض مستوى رؤيتي، أنا مقتنع بمنطق إننا كبشر عبارة عن خليط تجارب وظروف وعوامل كتير؛ سلبية وإيجابية معاً، مُرتبطة ببعضها وبتجذرها وتراتبيتها، وأي عنصر منها - حتى لو عطب- هو عامل أساسي لما يليه، ومقتنع بإن التقلبات بالتجربة والخطأ هي اللي بتؤدي إلى الحل الجذري المُؤسس السليم، اليوتوبيا مرة واحدة هي أسوأ يوتوبيا لإنها هشة غير متجذرة سهلة الكسر بلا دراية بأماكن العطب ووسائل المعالجة من أساسه.
.
مش باصص للموضوع من ناحية مين صح ومين غلط، لإن الحياة بكل معطياتها المختلفة وتفاصيلها المُعقدة والمُتشابكة والمُتناقضة أصعب من إن أي بشري يحدد هنا الصواب المطلق أو الخطأ المطلق، الحياة قصيرة وكلنا بنحاول وبنجتهد، ومع كل ده فيه عامل الاختيار - سواء شايفينه أو لا بس دايماً موجود- اللي بنحدد على أساسه عالمنا وأركانه وأبعاده. أنا كل اللي عايزه، الناس في "عالم الروتين الأسري المُنغلق" دي، تفضل عايشة في سلام وأمان، مش عايز أي أذية ليهم، ومش عايز أي قلق أو توتر أو كسرة قلب صُغيرة حتى، أنا محافظ على خيط رفيع واصل بيني وبينهم في الواجبات والالتزامات والاحتياجات العائلية، لكن مش هينفع يبقى الخيط ده أكبر، لإن كياني ووجودي نفسه بيتم استنزافه وتآكله بالخيط ده.
.
الخلاصة إلى أهلي وصداقاتي القديمة وحياتي ما قبل يناير، مع كامل الامتنان والود والاحترام لكم، أنا لا أنتمي - وبشكل نهائي- إلى عالمكم.