الأربعاء، 15 فبراير 2012

لمحات من حياة أخرى ..

لمحات من حياة أخرى


السادسة صباحاً

- رن جرس المنبه ليخترق الصمت .. استيقظ ذلك الرجل المستلقى على الاريكة وتثاءب فى تكاسل .. فها هو يوم جديد من ايام السنة .. رغم تكرار هذا اليوم طوال العام بنفس تفاصيله الا انه لم يشعر بالملل أبداً .. فهو يجد فيه كل اللذة والراحة النفسية .. فذلك العمل هو مصدر رزقه الوحيد الذى لا يستطيع الاستغناء عنه .. كما هو مصدر احساسه بالقوة امام الجميع ..

- نهض الرجل مسرعاً وأشعل التلفاز بصوت مرتفع ليتعرف على آخر الاخبار .. ذهب إلى الحمام ليسكب الماء على وجهه ذو الملامح القوية .. ثم شرع فى ارتداء ملابسه السوداء الداكنة التى تعطي الاخرين الإحساس بالرهبة .. وفجاة مرت على التلفاز المفتوح اغنية وطنية عن بلاده لم يسمعها منذ فترة كبيرة .. ابتسم الرجل فى أعماقه .. فقد نسى تلك الكلمات والمعانى الجوفاء منذ أمد بعيد ربما منذ انضمامه الى تلك المؤسسة الشهيرة .. لم يعد يفهمها أو يشغل باله بمثل هذه الامور التى لا معنى لها ..



الثامنة صباحاً


- ذهب الرجل - والحماس يملؤه - إلى مقر عمله فى تلك المؤسسة بمبناها الضخم الذى يثير الرعب فى النفوس .. تجاوز البوابة وهو يشعر بالزهو والقوة .. وعندما اقترب من مكتبه تناهى إلى سمعه أصوات الصراخ والعويل والتوسل تدوى من داخله وتهز ذلك الممر الضيق .. ياللمتعة.. !! ذلك الصراخ والعويل الذى بدأ يتلذذ به ويرتاح إليه بعد أن تعود عليه منذ فترة طويلة .. هل هذا أمر طبيعى ؟؟ لا يهم .. لم يعد يفكر كثيرا منذ إلتحاقه بتلك المؤسسة ..

- خمن الرجل على الفور أن زميله فى المكتب قد استفرد بأحد الاشخاص ليلقنه درسا لن ينساه.. دخل الرجل مكتبه ليجد صديقه وقد قيد رجلاً فى مقتبل العمر من يديه وقدميه وينهال عليه ضربا وركلاً وسحلاً .. تناوب لبعض الوقت مع زميله فى تعذيب ذلك المواطن الذى يراه لأول مرة.. لا يعرف أسمه ولا يعلم ماذا أرتكب .. شارك فقط لمجرد الرغبة فى تعذيب الآخر والإحساس بالقوة والعظمة .. لا يمكن لاحد أن يساله عما يفعل او ان تتم محاسبته .. وكيف ذلك وهو داخل تلك المؤسسة السيادية ذات الصلاحيات الواسعة فى جميع الربوع والأنحاء ..


العاشرة صباحاً

 
- بعد قليل ترك الرجل مكتبه ليشرب كوباً من الشاى ليحسن مزاجه .. بعدها قام بالاتصال باحد العملاء المخلصين لتلك المؤسسة .. رد عليه العميل على الطرف الآخر وأكد له " أن الفيديو الذى طلبه تم الانتهاء منه وأنه أرسله بالفعل على البريد الإلكترونى " .. هرع الرجل إلى مكتبه من جديد ليقوم بمعاينة الفيديو قبل إشهاره .. كان الفيديو لأحد المشاهير وقد تم تجميع بعض الصور وكتابة بعض العبارات الرنانة والقوية التى تطعن فى كرامته ونزاهته .. شعر بالرضا لذلك العمل الفنى .. لا يهم إن كانت الصور تبدو للوهلة الأولى " غير حقيقية " .. ولكنه تعلم فى تلك المؤسسة العريقة أن " تكرار الشائعة مع الضغط الفكرى يؤكدها فى نفوس الآخرين " .. وتعلم أيضاً أنه يمكن ايهام المشاهد بـ " أشياء غير الحقيقة المجردة أمام عينيه " بالتأكيد المستمر على وجودها من كل من حوله ..

- استرخى الرجل فى مقعده الوثير وأشعل عدة سجائر وهو يشعر بالراحة النفسية .. لا يعلم كم من المرات قام بعمل فيديوهات مشابهة لتشويه أولئك المشاهير الذين يبغضهم ويحتقرهم .. ولكن سعيد بما ينجزه ويقوم به .. وعلى الفور قام برفع الفيديو على أحد صفحاته الكبيرة على أحد مواقع التواصل الاجتماعى وهى صفحة مخصصة لحب الوطن .. ثم قام بإرسال رابط الفيديو إلى أقرانه فى المكاتب المجاورة لتبدأ مهمة الجميع فى الضغط والحشد لتوجيه الأراء فى التعليقات داخل ذلك الفيديو ..


الثانية عشر ظهراً


- فى الثانية عشرا ظهرا قدم عميل آخر الى مكتب ذلك الرجل ليعطيه فلاشة عليها اخر اعماله الابداعية .. صورة جديدة لـ " شاب مشهور وقد تم تركيبها على صورة لحفلة دعارة من أجل فضيحة أخلاقية لذلك الشاب " .. أقسم له العميل أنه لن يمكن أحد اكتشاف حقيقة الصورة مهما كانت درجة خبرته .. أعجب الرجل بالصورة بشدة فهى تبدو طبيعية تماماً .. أعطى العميل بقية اتعابه ووعده بمزيد من العمل المشترك فيما بعد ..

- بدأ الرجل فى صياغة خبر كامل ومحبوك حول تلك الصورة بمساعدة أحد المختصين اللغويين .. ثم قام بارسال الخبر الكترونيا لأكبر خمس صحف شهيرة تهتم بنشر الفضائح لتنشرها كلها فى نفس التوقيت مما يزيد من دوى الخبر على الشبكة العنكبوتية ..

- ثم جاءه أحد العاملين بالمؤسسة ومعه تقارير سرية وهى عبارة عن تفريغ لمكالمات هاتفية خاصة بين بعض الأفراد من تلك الفئة المميزة .. قرأها سريعاً وسجل بعض الملاحظات والمعلومات فى تقريره الشخصى اليومى ..


الثانية عصراً

 
- انتهى يوم الرجل بسرعة فى عمله .. خرج متعجلاً من تلك المؤسسة كى يلحق موعداً هاماً فى الثانية عصراً مع أحد أصحاب المقاهى الشهيرة فى تلك المنطقة الشعبية .. وجده هناك ينتظره فى لهفة .. أكد الرجل على صاحب المقهى الشهير " تأجير مجموعات من الأفراد – لديها الخبرة والمهارة الكافية - بمبلغ 50 جنيها للفرد ولصاحب المقهى 5 آلاف جنيهاً مقابل تلك المهمة الصعبة " ثم أعطاه الأموال اللازمة لذلك .. وأكد الرجل له أن الجهات الأخرى ستتعاون فى الأمر لكى تتم المهمة على أكمل وجه .. كان المطلوب شيئاً واحداً .. إشعال حريق ضخم بذلك المبنى العملاق التابع للدولة أثناء مظاهرات الغد الحاشدة .. المطلوب فقط حرقه بهدوء وبحرفية فى أقل الأوقات ازدحاماً بأولئك المتظاهرين الأوغاد ..


الرابعة عصراً

 
- انصرف الرجل من ذلك المقهى وتناول وجبة غذاء سريعة ليعود إلى منزله فى الرابعة .. فتح أحد مواقع التواصل الإجتماعى الشهيرة .. ثم أخرج ورقة يحتفظ بها فى حافظته مسجل بها " كلمات المرور الموحدة " الخاصة بفريق عمل الإدارة التابع لها فى تلك المؤسسة .. قام الرجل بأنشاء العديد من الحسابات الجديدة بأسماء مختلفة لرجال وفتيات .. فمسئول ذلك الموقع الغبى يقوم كل فترة بغلق حساباته القديمة ..

- تنبه الرجل إلى " إضافة صور شخصية مختلفة " اثناء انشاء كل حساب جديد .. وذلك وفقا للتعليمات الأخيرة لرئيسه فى العمل الذى أكد له " إن الصورة الشخصية تعطى مصداقية أكبر لصاحب الأراء وسط المجتمع الإلكترونى " .. فتح ورقة أخرى يحتفظ بها فى درجه – حيث قامت إدارته بتوزيعها عليهم مسبقاً - مسجل بها أسماء الصفحات الشهيرة بذلك الموقع الاجتماعى .. متضمنة صفحات إخبارية شهيرة وصفحات تجمعات شبابية وصفحات لبعض الجماعات والمشاهير ..

- بعدها فتح ملف لديه على الفلاشة مسجل به أهم العبارات التى يجب أن يقوم بالتركيز عليها .. تدور كلها حول " تخوين بعض الفئات وتشويه صورتهم والدعوة إلى الهدوء والاستقرار والإنتاج ".. كما نصَ الملف على بعض الأفكار الأخرى لأسلوب الرد والتى تحدث هزة نفسية للآخر .. المهم أنه يحاول أن يسرى الإحباط والياس بين تلك الفئة المستهدفة حتى يشعر كل منهم أنه وحيد وتهتز ثقته بنفسه وبأفكاره .. انهمك فى عمله ولم ينسى بالطبع أن يعطى العديد من علامات الاعجاب لتعليقات أقرانه المميزة بين الأخبار ليزيد من احساس الآخر بالعزلة ..

- انتهى من موقع التواصل الشهير بعد أن قام بدورته اليومية .. وذهب إلى احد المواقع الإخبارية الشهيرة .. فتعليمات رئيسه محددة وهى " التركيز الشديد على ذلك الموقع لأنه يحصل سنوياً على المركز الأول كأفضل موقع إخبارى به زوار فى تلك البلد " .. دخل الى الموقع وبدأ فى إلقاء التعليقات العشوائية على معظم الأخبار وتاييد ردود أقرانه فى مؤسسته العملاقة ..


الثامنة مساءً

 
- انشغل الرجل بكل هذه المواقع والأخبار إلى أن حلت الساعة الثامنة مساءً .. وهنا تذكر تلك الوقفة الصغيرة التى ينظمها بعض الشباب أمام ذلك المبنى الحكومى .. تبا أولئك الشباب الحقراء .. تلك الفئة التى يبغضها من أعماقه .. فتلك الفئة هى من أهانت رؤساءه وأطاحت ببعض من كبار مؤسسته الشامخة من مناصبهم .. نهض مسرعاً ونزل ليلحق بالوقفة .. كانت التعليمات فى ذلك اليوم " اعتقال أحد الشباب المنظمين لتلك الوقفة بعد أن تمت مراقبته ومعرفة خط سيرة اليومى وتم التأكد من أنه سيمر وحيداً بأحد الشوارع الضيقة ليلاً بعد انتهاء الوقفة " .. تتبع الرجل الوقفة من بعيد فكانت الأوامر الجديدة لديه " ألا يحاول الاندماج وسطهم " .. فهم اصبحوا يميزون الدخلاء وذات مرة اكتشفو وجود احد زملاءه بينهم واهانوه .. تأمل الرجل وجوه المشاركين فى الوقفة .. نفس الملامح الهادئة البريئة " البغيضة " .. مهلاً مهلاً عليه أن يهدأ الآن وسيحين الدور على الجميع ربما غداً أو بعد غد لا يعلم تحديداً ..

- انتهت الوقفة ثم بدأ الجميع فى الانصراف .. اتصل الرجل بصديقه فى المكتب ليجهز عربته السوداء ومعه زميل آخر ليتقابلا فى ذلك الطريق .. وقف الرجل منتظراً ذلك الشاب المنشود فى هذا الشارع الضيق أمام أحد عواميد الانارة وشاهده وهو يقترب ومن خلفه زميل صديقه يقود السيارة ويتبعه ببطء .. وعندما مر الشاب أمامه سأله عن الساعة وبتلقائية توجه نظر الشاب إلى الساعة ليقفز صديق الرجل بسرعة من السيارة ويضربه ضربة خلفية فنية ليفقده الوعى تماماً .. قأما الأتنان بسحب الشاب إلى داخل السيارة وأغميا عينيه بقطعة قماش وقيداه بإحكام .. لينطلق الثالث بالسيارة مسرعاً متجهاً صوب أحد المقار السرية المملوكة لهذه المؤسسة فى تلك المنطقة النائية .. عبرت السيارة إلى داخل ذلك الجراج الخلفى حيث توقفت ..

- بعد إغلاق الجراج.. القى الاثنان الشاب أرضاً وبدءا فى اسقاط الماء البارد على وجهه ليستفيق فى ذعر .. انهالا عليه ضربا بعدة ركلات فى البداية دون أن يفهم الشاب ماذا يجرى .. أخذا فى إلقاء الأسئلة عليه ويأخذان معلومات منه عن زملاءه وأرقام تليفوناتهم ونشاطاتهم المختلفة .. وفى كل مرة يحاول الشاب الاستفسار عن شىء أو يماطل فى الاجابة يقومان بضربه بالاحذية والعصيان .. بعد مرور قرابة الساعتين وتوجيه عدد لا باس به من الضربات واللكمات فى مختلف مناطق جسمه .. بدأ جسد الشاب فى الانهيار .. فحملاه مسرعين إلى السيارة ليعودا به إلى نفس المكان الذى أختطفاه منه ويلقياه بسرعة فى وسط الظلام وينطلقان مسرعين ..


الساعة الثانية عشر مساءً

 
- أخيراً عاد ذلك الرجل إلى بيته وقد شعر بالراحة النفسية بعد يومه الطويل والمتعب .. شعر بأنه أدى ما عليه وأحس أخيراً بالطمأنينة وقد أراح ضميره بعد أن أدى واجبه .. بالتأكيد سيكافئه رئيسه غداً بعد أن يعلم ما قد تم انجازه .. أعد تقريره الشخصى عن ما قد قام به خلال اليوم موثقاً ببعض الصور والتفاصيل المطلوبة .. ثم نام هنيئاً مرتاح البال متشوقاً إلى يوم جديد من الجد والاجتهاد ..


احمد عاطف
14 فبراير 2012